فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

والذي يظهر لي أنّه حزقيال ابن بوزي نبيء إسرائيل كان معاصرًا لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل، جمع كتب شريعة موسى وتابوتَ العهد وعصَا موسى ورماها في بئر في أورشليم خشية أن يحرقها بختنصر، ولعله اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سرًا بينه وبين أنبياء زمانِه وورثتهم من الأنبياء.
فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتابًا في مَراءً رآها وَحْيا تدل على مصائب اليهودِ وما يرجى لهم من الخلاص، وكان آخر ما كتبه في السنة الخامسة والعشرين بعد سبي اليهود، ولم يعرف له خبر بعدُ كما ورد في تاريخهم، ويظن أنّه مات أو قُتل.
ومن جملة ما كتبه أخْرَجَنِي روحُ الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظامًا كثيرة وأمّرَني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي: أتَحيَى هذه العظامُ؟ فقلت: يا سيدي الرّب أنتَ تعلم.
فقال لي: تنبأْ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصبًا وأكسوكم لحمًا وجلدًا.
فتنبأت، كما أمرني فتقاربتْ العظام كل عظم إلى عطمه، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدًا.
ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شكّ أن الله لما أعاد عُمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة450 قبل المسيح أحيا النبي حزقيال عليه السلام ليرى مصداق نبوته، وأراه إحياء العظام، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه، أو لأهل القرية التي كان فيها وفُقِد من بينهم فجاءهم بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته، فيكون قوله تعالى: {مرّ على قرية} إشارة إلى قوله: أخرجني روح الرب وأمّرني عليها.
فقوله: {قال أنَّى يحيي هذه الله} إشارة إلى قوله أتحيي هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأنّ كلامه هذا ينبئ باستبعاد إحيائها، ويكون قوله تعالى: {فأماته الله مائة عام} إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنّهم كتبوها بعد مرور أزمنة، ويظن من هنا أنّه مات في حدود سنة 560 قبل المسيح، وكان تجديد أورشليم في حدود 458 فتلك مائة سنة تقريبًا، ويكون قوله: {وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمَا} تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} قال الأصمعي: خوى البيت فهو يخوى خواء ممدود إذا ما خلا من أهله، والخوا: خلو البطن من الطعام، وفي الحديث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى» أي خلى ما بين عضديه وجنبيه، وبطنه وفخذيه، وخوى الفرس ما بين قوائمه، ثم يقال للبيت إذا انهدم: خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك: خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر، والعرش سقف البيت، والعروش الأبنية، والسقوف من الخشب يقال: عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب، فقوله: {وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي منهدمة ساقطة خراب، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه وجوه أحدها: أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها، ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة، ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وموضع آخر {أَعْجَازُ نَخْلٍ منقعر} [القمر: 20] وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني: قوله تعالى: {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي خاوية عن عروشها، جعل على بمعنى عَنْ كقوله: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس} [المطففين: 2] أي عنهم والثالث: أن المراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر، لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة، فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر. اهـ.
وقال الفخر:
أما قوله تعالى: {قَالَ أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} فقد ذكرنا أن من قال: المار كان كافرًا حمله على الشك في قدرة الله تعالى، ومن قال كان نبيًا حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد، كما قال إبراهيم عليه السلام: {أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260] وقوله: {أنّى} أي من أين كقوله: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها، أي متى يفعل الله تعالى ذلك، على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه، وفي إحياء القرية آية: {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ} وقد ذكرنا القصة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} معناه من أيّ طريق وبأيّ سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكّان، كما يقال الآن في المدن الخِربة التي يبعد أن تعمر وتسكن: أنَّى تعمر هذه بعد خرابها.
فكأن هذا تلهّف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبّته.
وضرب له المَثَل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم، أي أنَّى يحيي الله موتاها.
وقد حكى الطبريّ عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكًّا في قدرة الله تعالى على الإحياء؛ فلذلك ضرب له المثل في نفسه.
قال ابن عطيّة: وليس يدخل شكّ في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصوّر الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب ألاّ يتأوّل في الآية شك. اهـ.

.قال أبو حيان:

الإحياء والإماتة هنا مجازان، عبر بالإحياء عن العمارة، وبالموت عن الخراب.
وقيل: حقيقتان فيكون ثم مضاف محذوف تقديره: أنَّى يحيي أهل هذه القرية، أو يكون هذه إشارة إلى ما دل عليه المعنى من عظام أهلها البالية، وجثثهم المتمزقة، وأوصالهم المتفرقة، فعلى القول بالمجاز يكون قوله: أنَّى يحيي على سبيل التلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، وعلى القول الثاني يكون قوله: أنَّى يحيي اعترافًا بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظامًا لقدرة المحيي، وليس ذلك على سبيل الشك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ الله مِائَةَ عَامٍ} مائة نصب على الظرف.
والعام: السنة؛ يقال: سِنون عُوَّم وهو تأكيد للأوّل؛ كما يقال: بينهم شُغْلٌ شاغلٌ.
وقال العجّاج:
مِن مرّ أعوامِ السِّنين العُوَّم

وهو في التقدير جمع عائم، إلا أنه لا يفرد بالذِّكر؛ لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد، قاله الجوهريّ.
وقال النقاش: العام مصدر كالعَوْم؛ سُمّيَ به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفَلك.
والعَوْم كالسَّبْح؛ وقال الله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33].
قال ابن عطية: هذا بمعنى قول النقاش، والعامُ على هذا كالقول والقال. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ} فالمعنى: ثم أحياه، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، وإنما قال: {ثُمَّ بَعَثَهُ} ولم يقل: ثم أحياه لأن قوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ} يدل على أنه عاد كما كان أولًا حيًا عاقلًا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية، ولو قال: ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ثم بعثه} أي أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما أحاط العلم بأن هذا العمل لأجل إيقانه على القدرة تشوفت النفس إلى ما حصل له بعد البعث فأجيبت بقوله تنبيهًا له ولكل سامع على ما في قصته من الخوارق: {قال} أي له الله سبحانه وتعالى أو من شاء ممن خطابه ناشئ عنه {كم لبثت} أي في رقدتك هذه {قال} لنظره إلى سلامة طعامه وشرابه {لبثت يومًا} ثم تغير ظنه بحسب الشمس أو غيرها فقال: {أو بعض يوم} وكأنه استعجل بهذا الجواب- كما هي عادة الإنسان- قبل النظر إلى حماره {قال} أي الذي خاطبه مضربًا عن جوابه بيانًا لأنه غلط ظاهر {بل لبثت مائة عام} معبرًا عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة والامتداد والطول ودله على ذلك وعلى كمال القدرة بقوله: {فانظر إلى طعامك وشرابك} أي الذي كان معك لما رقدت وهو أسرع الأشياء فسادًا تين وعصير {لم يتسنه} من السنة أي يتغير بمر السنين على طول مرورها وقوة تقلباتها وتأثيرها، ومعنى القراءة بهاء السكت أن الخبر بذلك أمر جازم مقنع لا مرية فيه ولا تردد أصلًا {وانظر إلى} {حمارك} باليًا رميمًا، فجمع الله له سبحانه وتعالى بين آيتي الرطب في حفظه واليابس في نقضه.
ولما كان التقدير: فعلنا ذلك لنجعله آية لك على كمال القدرة أو لتعلم أنت قدرتنا، عطف عليه قوله: {ولنجعلك} أي في مجموع خبرك {آية للناس} أي كافة فكان أمره إبقاء وتثبيتًا آية في موجود الدنيا على ما سيكون في أمر الآخرة قيام ساعة وبعثًا ونشورًا- قاله الحرالي.
ولما أمره بالنظر إلى ما جعله له آية على لبثه ذلك الزمن الطويل أمره بالنظر إلى ما جعله له آية على اقتداره على الإحياء كيف ما أراد فقال: {وانظر إلى العظام} أي من حمارك وهي جمع عظم وهو عماد البدن الذي عليه مقوم صورته {كيف ننشزها} قال الحرالي: بالراء من النشر وهو عود الفاني إلى صورته الأولى وبالضم جعل وتصيير إليه، وبالزاي من النشز وهو إظهار الشيء وإعلاؤه، من نشز الأرض وهو ما ارتفع منها وظهر- انتهى.
وضم بعضها إلى بعض على ما كانت عليه ينظم ذلك كله {ثم نكسوها لحمًا} قال الحرالي: جعل حياته بعثًا وحياة حماره نشورًا وأراه النشر، واللحم الذي لحم بين العظام حتى صارت صورة واحدة ليتبين أمر الساعة عيانًا فيكون حجة على الكافر والمستبعد {فلما تبين له} أي هذا الأمر الخارق الباهر الدال على ما وصف سبحانه وتعالى به نفسه المقدسة في آية الكرسي.
قال الحرالي: وفي صيغة تفعل إشعار بتردده في النظر بين الآيتين حتى استقر عنده أمر ما أعلم به واضمحل عنده ما قدره {قال أعلم} بصيغة الفعل بناء على نفسه وبصيغة الأمر إفادة لغيره ما علم لتدل القراءتان على أنه علم وعلم لأن العلم إنما يتم حين يصل إلى غير العالم فيجمع فضل العلم والتعليم- انتهى.
ويجوز أن يدل التعبير بالمضارع في أعلم على أنه لم يزل متصفًا بهذا العلم من غير نظر إلى حال ولا استقبال ويكون ذلك اعتذارًا عن تعبيره في التعجيب بما دل على الاستبعاد بأنه إنما قاله استبعادًا لتعليق القدرة بذلك لا للقدرة عليه {أن الله} أي لما أعلم من عظمته {على كل شيء} أي من هذا وغيره {قدير} قال الحرالي: في إشعاره إلزام البصائر شهود قدرة الله سبحانه وتعالى في تعينها في الأسباب الحكمية التي تتقيد بها الأبصار إلحاقًا لما دون آية الإحياء والإماتة بأمرها ليستوي في العلم أن محييك هو مصرفك، فكما أن حياتك بقدرته فكذلك عملك بقدرته فلاءم تفصيل افراد القدرة لله بما تقدم من إبداء الحفظ بالله والعظمة لله، فكأنها جوامع وتفاصيل كلها تقتضي إحاطة أمر الله سبحانه وتعالى بكلية ما أجمل وبدقائق تفاصيل ما فصل- انتهى.
وفي الآية بيان لوجه مغالطة الكافر لمن استخفه من قومه في المحاجة مع الخليل صلوات الله وسلامه عليه بأن الإحياء الذي يستحق به الملك الألوهية هو هذا الإحياء الحقيقي لا التخلية عمن استحق القتل. اهـ.